قراءة في لوحة الفنان شوقي دلال لبيت جُبيل التراثي: جسرُ عبورٍ يشتدّ قربًا من الفرح

 


* بقلم الكاتبة مروى مشَيك لبنان

جميلُ التّراث وإن شحّت قصائدُه

يَظلُّ يُسقى ولو باللّون إحياء

قوافٍ كنّا نجهلها

نُحاكيها

نُناغيها

وبعد صرنا نُحييها

قد اقتيد على سرج الانتداب، محاكيًا النّدب أروقةٌ وبهتانا، يبحث عن بصيص أمل بين تلك الأزقّة التي صارت بالأمس حطامًا، بعد أن أُجحِفَ بحقّها بغية التّنقيب عن الثّروات الممزّقة ما بين الأيادي المستعمرة. هو ذلك البيت التّراثي المتواجد في محيط قلعة جبيل، والّذي أبقى عليه الفرنسيّون بعد طردهم لمن يقطنون الجوار. 

هناك ابتدأت مسيرة الشّقاء، حيث يستلقي النّواح والعويل في تلك التّربة التي لاقت مصيرها تحت وطأة الاحتلال. أشرعة تمزّق أشلاءها المركونة في غربة الألوان، تلك الّتي تراءت في أوّل الصّورة وأسفلها من ناحية اليمين لتبرز بحلّة الرّقم اللامحدود -الرّقم الفرنسي السّابع- والّذي تعتريه رماديّة باطنة، وكأنّه يريد القول بانتصار معاكس يفرض التّغلّب على الإذعان، كثورة تبدأ من النّفق لتصل إلى أبعد من البحر لعلّ العالم العربيّ يردّ الصّدى بأحسن منه. ويتماهى الرّقم بعدها ليتحوّل إلى حكاية مأساويّة بطائرات قد شيّدت مستقبلًا وطنيًّا يعيش الطّعن أفكارًا وأحزانًا.

هذه الازدواجيّة الصّامتة ما تدعو إلّا لسلام عاجل بعد تحقيق الاقصاء وفكّ أحزمة الاستفحال لقمع السّلب المُمنهج وتقييده. 

بعد محاولة تفكيك الثّغرات وترميم الحقائق، يبقى السّؤال: ما هي الحيثيّات الّتي أدّت إلى تسليط ألسنة الدّمار من الأسفل، وكلّنا ثقة أنّ الهجوم يكون عادة فوقي المنهج؟

 وتعود الحقائق مطلقة شفافيّة بنّاءة ترتجي كشف المبهمات، وكأنّ الزّمن الآتي يحول دون الوصول إلى الحريّة؛ لأنّ عتبة المنزل يعتريها الجفاف ويقضمها غزو ديناصور قد اتّسعت عيناه ليبدو أكثر قربًا من الجاسوس المنمّق دون رحمة أو مبالاة، تراه يفترش ٱلتِهامَ الأخبار ليصيغها على هيئة التّلقين، فيبين الكبت المرتجى ويُحكّم السّلطة كما يشاء هواه. 

في هذا الجوّ العارم بالمشاحنات، تستيقظ الحريّة في نفس طفل وأمٍّ ومقاوم ما خاب الظّنّ بهم، فعرجوا في العلاء موطّنين في داخلهم حكايات السّلام. هم أطفال الأتراب والجسر المتين الّذي قال بهم خليل حاوي وناداهم نزار بِمنبرِه المطلق الّذي يحمل العروبة نثرًا وشعرًا... ها هم يظهرون بحلّة جديدة في لوحة تجسّد تاريخ لبنان وأهله الّذين عانوا الحرمان على مرّ التّاريخ. 

حصان يعدو نحو قرار التّحرّر، بلونه البنّيّ، يُطلق صهواته الأولى ويتّخذ حضن أمّه الأبيض وشاحًا له يحميه من رياح الاعتداء على الإنسانيّة جمعاء. حكاية ترمي إلى نبش براثن التّخفّي، تضميد الجراح ومدّ يد التّواصل لشعبٍ تعطّش الحياة مرّات وأكثر. وهذه الأخيرة، قد حيكت بثوب أزرق اللون يفتح لنا مصابيح جديدة علّها تضيء تلك الزّاوية الظّلماء الّتي أينعت قبل الحصاد ببرهة من الزّمن. فما بين البحر والسّماء كتابٌ يطلب المزيد لِتَشاءَ المعرفة قدرًا يدفن في حناياه صراعًا داخليًّا ينتاب شعبًا قد أرّقته غربة الضّمير، فإذ به يستنطق جرعة أملٍ ويُسرّبها إلى السّواقي علّها تردّ الأمور إلى مجاريها.

جسرُ عبورٍ قد احتلّ الوسط متمثّلًا باللون الأبيض الّذي يشتدّ قربًا من الفرح، ذلك الّذي حُمِلَ على جثمان رجال أحبّوا أن يبقى لبنان كما عهدناه في الصّبح القريب. 

وتظلّ النّخلة صامدة بالرّغم من كلّ التّجاعيد الّتي خذلتها، فتراها تعيش المرأة بِعُمقها وشفافيّتها مذ كانت تتهجّى الحروف وتستوقف دورها البنّاء مقاوِمة سراديب العتمة الموحشة. لم تكتنف الرّجعية مركزًا لها، بل جاءت متوازية لأعمدة المنزل تارّة تنتشل طفلًا قد أغرقته الأمّيّة، وطورًا تنظِمُ تراتيل بِزيٍّ وطنيّ ترمي إلى تمحيص الطّين على سبيل الانتماء.

والجدير بالذّكر أنّ الفنّ هنا يتقمّص السّرد الواقعي التّاريخي بنكهة الوصف المتسرّب إلى عالم الطّبيعة، علّه بذلك يرضي النّفس البشريّة بقليل من غمس النّاي؛ ليبدو ثلاثيّ الأبعاد محاولًا استقراء المنطق بِمراسيمَ وجوديّة تسعى إلى مناقشة الوضع الرّاهن وطرح القضايا بأسلوب فنّي يتسرّب إلى جوف الحقائق ويكشف عنها بألوان تفكّك ما كان بالأمس مَنْسِيًّا. 

يبقى السّؤال في رحم الذّاكرة منتفضًا: أيزول الاحتضار الثّقافي في ظلّ وجود كُتَيّبٍ فنيٍّ يدعو إلى إعادة الاعتبار لحاجات النّفس البشريّة على الرّغم من سيطرة اللّغة الرّقميّة؟

 بل اتّخذت من الجانب حيّزها المثالي، لأنها فضّلت المساوات مابين الطّرفين، صوت تهافت الألوان يكشف الغطاء مرمّمًا ما قد بُعثِر ما بين زفّة المقابر وصقيع البيادر؛ ليتنفّس البني ما تبقّى من الحكاية ويُعلن التّحدي خلاصة مسيرته التّحرّريّة.





CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق