لم يكن لأمّي ريشة شوقي دلال ولا ألوانه.
لكنّها تقاطعت معه في جغرافيا المنطقة، لذا عرفتْ أمّي كيف تصنع من القشّ مكنسة تنظّف بها ما يفسد الجمال.
بلّل دلال قشّه بكثير من الرّوح والمشاعر، وحزم الضّوء المبصر، سعيًا منه في مجارات قشّ أمّي، الّذي كانت تجفّفه، لتؤالف بين ألوانه دون أيّ تكلّف.
كانت تلقي بقشّها بين أكفّنا، سلالًا، وأطباقًا، عبأتها بالحبّ والأمل.
وألقى هو بقشّه في ذاكرتنا ومرمى عيوننا جمالًا، يعيد إلى ريفنا كلّ أمهاتنا، اللائي ما رسمن بغير نقوش أقدامهّن الحافية، وأكفّهنا العارية من أيّ حرام. وقد نبتت أصابعهن في حواف أحواض حدائق ما غابت بعد.
ترى هل أيقظ دلال أمّه، أم أنّ أمّه هي الّتي أيقظت فيه خيمة القشّ هذه؟!
ذلك ما لا يسهل البتّ فيه.
لكنّي أجزم أنُه مِنْ فِعْلِ أمّه.
وما تُهَمُ الأمّهات إلا تربية الجمال.
فقد تعلمت من أمًي وهي تصفّ القشّ، كيف أصفُّ أبجديّتي في أطباق وسلال أملؤها سردًا وخيالًا.
لقد سرق دلال الطّفل كلّ أدوات أمّه، وبقايا نقوشها في المكان، والكثير ممّا أبقته على أكفّها من ورود الدّار، وصفرة سّنابلها، ثمّ مازج بينها، ونسج قميصًا لونيّا، ألقى به على عيون يعاقبة هذا الشّرق، لعلّه يعيد إليهم أبصارًا، ما زالت تنسكب خوفًا من قمح مصر وعزيزها.
لقد عجن دلال قشور صخر جبل الشّيخ، وألحية جذوع سنديانه وبلّوطه، وخلطه بسائل نزف من جرح أمّه وحزنها وفرحها وتعبها على أعقاب المنجل، وقدّمه للنّاس ألوانًا، شكّل ذاكرة، تعيد التّفاصيل، وتغري المغادر بالإياب.
لن أخوض بنصّي هذا في تفاصيل التّكوين، وساكتفي بالغوص في تفاصيل أمومة، تَدْفقُ الألوانَ والنصوصَ من أرحامها، ثم تغادر على بساطتها، وقد أوقدت في دروب المخيلة كلّ مواقد الجمال الّذي يرفض الانطفاء.
أعاد شوقي دلال بعمله هذا لأمّه كل ما كان لها في راشيا وجبل الشّيخ من مساكب عشّبتها كفّها العارية من قشّ قدمته لطفلها، فنشره ألوانًا تمطر جمالًا فوق قماش صحاريه.
وأعاد إليّ أمًا، لا زالت تغوص أمامي في غاب عَمّيق، تطلب حَلْفاءً وبوطًا لا تقاومه مفاوضات تاجر حصائر القشّ، وفي أنفي منه عطرٌ، مهما باعدت بيني وبينه أسطح الطّين المنهارة، لن يجفّ.
* الدكتور عمر سعيد أديب وروائي لبنان
0 comments:
إرسال تعليق