إصدار مجلَّة الشَّاعر في تونس تتضمَّن ملفاً عن الأديب التّشكيلي صبري يوسف

صبري يوسف ــ ستوكهولم

صدر العدد المزدوج الثَّالث والرَّابع من مجلّة: "الشَّاعر"، وهي مجلّة فصليّة، أدبيّة، ثقافيّة، فنّية، يحرِّرها الشَّاعر التُّونسي سامي نصر مع مجموعة من الأدباء والمثقَّفين والفنَّانين المهتمِّين بالإبداع على السَّاحة العربية، وقد تمَّ إصدار العدد الأوَّل والثَّاني في شتاء وربيع 2013، وصدر هذا العدد المزدوج بحلّته الجَّديدة على مساحة  345 صفحة من الحجم المتوسط، يحتوي العدد على دراسات نقديّة لمجموعة من الباحثين من تونس ومن العالم العربي حول الشِّعر العربي القديم، كما يحتوي العدد على ركن جديد سمّيناه "كاتالوغ"، استضفنا فيه الأديب والفنّان التَّشكيلي السُّوري صبري يوسف المقيم في ستوكهولم وفيه حاولنا الإحاطة بتجربته الفنّية وأجرينا معه حواراً، تحدَّث فيه عن تجربته الفنِّية بشكلٍ مكثَّف، ونشرنا ما يقارب الخمسين لوحة من أعماله ملوّنة داخل العدد. وقد تمَّ اقرار ملف الكاتالوغ في الأعداد القادمة تباعاً.

إنَّ مجلَّة الشَّاعر هي مجلّة كل شاعر، وكاتب، وأديب وفنّان ومفكر ومثقّف ومهتمّ بالشَّأن الأدبي والثّقافي والفنّي، لذا ترحّب مجلّة "الشَّاعر"، بالكتَّاب والشُّعراء والمبدعين والمهتمّين بالشّأن الإبداعي، التَّواصل مع "الشَّاعر" سواء بقراءتها أو الكتابة فيها، أو الإشتراك فيها للحصول على نسختكم الورقيّة عبر البريد الجوّي على العنوان التَّالي:  

saminasr1@hotmail.fr

فيما يلي ننشر رابط المجلّة، ويمكنكم تصفّح المجلة على الرابط التالي ومشاهدة كافة اللوحات المنشورة في ملف: كاتالوغ.

http://fr.calameo.com/read/000597009d9830166f326

كاتالوغ:
_________________

صبري يوسف

مشاعري متدفِّقة كحنينِ العشَّاق إلى أعماق تجلِّيات الرُّوح


صبري يوسف

حالما أدخل في فضاءات الألوان، أرسم فرحاً، حبّاً، عشقاً، سلاماً، وردةً، زهوراً برّية.. حنينُ الكرومِ لا يفارقُ لوني، والسَّنابلُ تغمرُ مروجاً ممتدَّة على مدى العمر! لا أرسم حزناً ولا ألماً ولا حرباً، أترجم هذه المشاعر الألميّة والحزنيّة عبر الحرف! لهذا يبدو لي الحرفُ وكأنّه توأمُ اللَّونِ، أكتبُ شعري بالحرفِ تارةً وباللَّونِ تارةً أخرى!
في الرَّسم، أنحاز إلى الجَّمال، لا أنحاز إلى "جمال القبح"، كما يُقال. القبح يظلُّ قبحاً، حتَّى ولو كان بديعاً من حيث الإبداع الفنّي! لأنَّ اللَّوحة عندي هي حالة جماليّة، ولا أريد أن تقترن بالأحزان والهموم، ولا شكَّ أنّ هناك الكثير من اللَّوحات ممكن أن تعكس حالات ألميّة وحزنيّة بالغة الأهميّة، كما هو الحال في لوحة بيكاسو الشَّهيرة: الجورنيكا، الَّتي أخذت شهرة عالميّة من خلال ترجمته لحالات الأسى والحرب الأسبانيّة الأهليّة الّتي دارت رحاها آنذاك، ومع كلِّ هذا أنفر من مشاهدة لوني يترجم الدِّماء والحروب والأحزان ومرارات الحياة! لربّما هو نوع من رفض الحرب والإنحياز التَّام للسلام والحبّ والفرح، لهذا تحملُ فضاءات لوحاتي رسالة سلام ومحبّة وفرح ووئام بين البشر، إنطلاقاً من رؤاي الجَّانحة نحو إحلال السَّلام والوئام والحبّ في وطني الأم سورية، مروراً بوطني الثَّاني السُّويد وإنتهاءً بالعالم أجمع.                         
متى سيفهم المرءُ أنَّ الحياةَ بمثابة لوحة جميلة تظهر في بسمةِ طفلٍ، في نضارةِ وردةٍ، في وهجِ عشقٍ، في زخّةِ مطرٍ، في نقاوةِ بحرٍ، في تلألؤاتِ نجيماتِ الصَّباحِ، في مصالحةِ الإنسان مع أخيهِ الإنسان، في مصالحةِ الإنسانِ مع جمال البرّ والبحرِ وأجرام السَّماءِ، في وئام البشرِ على مساحاتِ جغرافيّةِ الكونِ؟!
أجنحُ عبر كتاباتي ونصوصي ورسومي نحو قيمِ الخير والمحبّة والسَّلام بين البشر، لكنِّي أتوقّف مليَّاً عند أحزاني وهمومي وهموم الآخر وأترجمها عبر الكلمة، لأنَّني عبر الكلمة أستطيع أن أكتب عن أيِّ موضوع حتّى ولو كان حزيناً وأليماً، وهنا أنحاز بقوّة إلى جمال القبح عبر النّص، عبر الكتابة، عبر الحرف، لربّما قدراتي في ترجمة هذه المشاعر أكثر عمقاً في الحرف منه في اللَّون.
أرسمُ أعمالي بالسِّكِّين والفرشاة النَّاعمة، بأسلوب شاعري فطري طفولي حُلمي تخيُّلي، وبعدّةِ مدارس فنّية، بعيداً عن التقيّد بأساليب معيّنة في عالم الفن، فلا أتوقّف عند مدرسة أو تيّار فنِّي معيَّن، بقدر ما أتوقَّف عند مشاعري العفويّة المتدفِّقة مثل حنين العشَّاق إلى أعماق تجلِّيات الرُّوح، أو مثلَ شلالٍ يتدفّقُ من أعالي الجِّبال، أو كشهقةِ طفلٍ لاشراقةِ الشَّمسِ في صباحٍ باكر، حيث تتداخل عدّة أساليب في اللَّوحة الواحدة، وغالباً ما تتدفّق هذه الألوان بشكل عفوي حلمي تأمُّلاتي، ثمَّ تتوالد الأفكار  وتتطوّر وتتناغم الألوان خلال عمليات الرَّسم، ويتميَّز الأسلوب الَّذي أشتغل عليه بالتَّدفُّقاتِ اللَّونيّة وموشور إنسيابيّة الأفكار ضمن إيقاع لوني فيه من الموسيقى والرّقص والفرح والحنين إلى عوالم الطُّفولة والشَّباب والحياة بكلِّ رحابها، وكأنّي أتعانقُ مع تدفُّقاتي الشِّعريّة. أكتب شعراً عبر اللَّون، أجنح كثيراً نحو العفويّة والتّحليقات اللَّونيّة، مستخدماً الرَّمز  والتَّجريد والأزاهير وكائنات برّية وأهليّة وأشكال من وحي الخيال والواقع أيضاً، حيث تبدو لوحاتي وكأنّها قصائد شعريّة تمَّ كتابتها عبر اللَّون، ولهذا تبدو اللَّوحة وكأنَّها الجّزء المتمّم للقصيدة، وفي هذا السِّياق قلتُ في إحدى الحوارات التي أُجْرِيَتْ معي "إن الشِّعرَ  والرَّسمَ وجهان لعشقٍ واحد هو الإبداع"، لأنّني أرى أنَّ الَّذي لا يعشقُ الشِّعرَ أو الرَّسمَ بعمق، لا يستطيعُ إنجازَ  نصٍّ شعريٍّ عميقِ الرُّؤية أو  رسمَ لوحةٍ فنّيةٍ غنيّةٍ بمساحاتها وأجوائها اللَّونيّة المنسابة بتجلِّياتِ الإبداع. 

            
سيرة غير كاملة للفنّان التَّشكيلي والأديب السُّوري صبري يوسف

*مواليد سوريّة ـ المالكيّة/ديريك  1956.
*حصل على الثَّانوية العامّة ـ القسم الأدبي من ثانويّة يوسف العظمة بالمالكيّة عام 1975.
*حصل على أهليّة التَّعليم الإبتدائي، الصَّف الخاص من محافظة الحسكة عام 1976.
* حصل على الثَّانوية العامة، القسم الأدبي كطالب حرّ من القامشلي عام 1978.
*درس الأدب الانكليزي في جامعة حلب ولم يتابع دراساته لأسباب بكائيّة متعدِّدة.
* حصل على الثَّانوية العامّة عام 82 القسم الأدبي كطالب حرّ مخترقاً القوانين السَّائدة آنذاك، حيث صدر مرسوم وزاري يمنع من تقديم الطَّالب لنفس الثَّانوية العامّة الَّتي نجح فيها مرَّتين لكنّه لم يتقيّد بالمرسوم فتقدّم للإمتحانات للمرّة الثَّالثة على أنّه حصل على الإعداديّة فقط وهكذا اخترق القانون بالقانون، لكن قانونه هو!
 * خرّيج جامعة دمشق، قسم الدِّراسات الفلسفيّة والاجتماعيّة/ شعبة علم الاجتماع عام 1987.
* أعدم السِّيجارة ليلة 25. 3 . 1987 إعداماً صوريَّاً، معتبراً هذا اليوم وكأنّه عيد ميلاده، ويحتفل كل عام بيوم ميلاد موت السِّيجارة، لأنّه يعتبر هذا اليوم يوماً مهمّاً ومنعطفاً طيّباً في حياته. 
* اشتغل في سلكِ التّعليم 13 عاماً، في إعداديات وثانويات المالكيّة، ثمَّ عبر المسافات بعد أن قدَّم استقالته من التّعليم، واضعاً في الاعتبار عبور البحار والضَّباب، مضحّياً بالأهل والأصدقاء ومسقط الرَّأس بحثاً عن أبجدياتٍ جديدة للإبداع.
* قدَّم معرضاً فرديَّاً ضم أربعين لوحة في صالة الفنَّان ابراهيم قطّو في ستوكهولم 2007. 
* شارك في معرض جماعي أيضاً في صالة الفنَّان ابراهيم قطّو  في ستوكهولم 2007.
* قدّم ثلاثة معارض فرديّة في منزله.
* قدّم معرضاً فرديّاً في صالة "ستور ستوغان" في ستوكهولم ضمَّ 33 لوحة و 7 أعمال نحتيّة، 2011.
* قدّم معرضاً فرديّاً في صالة "ستور ستوغان" في ستوكهولم ضمَّ 50 لوحة، ومعرضاً جماعيّاً في غاليري هوسبي 2012.
* قدّم معرضاً فرديّاً في صالة "ستور ستوغان" في ستوكهولم ضمَّ 50 لوحة 2013.
*أسّس دار نشر خاصّة في ستوكهولم عام 1998 وأصدر المجموعات الشِّعريّة والقصصيّة والكتب التَّالية:
1 ـ "احتراق حافّات الروح"  مجموعة قصصيّة، ستوكهولم 1997.
2 ـ "روحي شراعٌ مسافر"، شعر، بالعربيّة والسويدية ـ ستوكهولم 98 (ترجمة الكاتب نفسه).
3 ـ "حصار الأطفال .. قباحات آخر زمان!" ـ   شعر ـ  ستوكهولم  1999  
4 ـ "ذاكرتي مفروشة بالبكاء" ـ قصائد ـ ستوكهولم  2000  
5 ـ "السَّلام أعمق من البحار" ـ شعر ـ  ستوكهولم  2000  
6 ـ "طقوس فرحي"، قصائد ـ بالعربيّة والسُّويديّة ـ ستوكهولم  2000  (ترجمة الكاتب نفسه).
7 ـ "الإنسان ـ. الأرض، جنون الصولجان" ـ شعر ـ ستوكهولم   2000 
8 ـ مائة لوحة تشكيليّة ومائة قصيدة، تشكيل وشعر/ستوكهولم 2012     
9 ـ  أنشودة الحياة ـ الجّزء الأوَّل، نصّ مفتوح ـ ستوكهولم 2012
10 ـ ترتيـلة الـرَّحيـل ـ مجموعة قصصيّة، ستـوكـهولم 2012 
11 ـ شهادة في الإشراقة الشِّعريّة، التَّرجـمة، مـقوّمـات النّهوض بتوزيع الكتاب وسيـكولوجيـا الأدب ـ سـتـوكـهولم  2012       
12ـ أنشودة الحياة ـ الجّزء الثَّاني، نصّ مفتوح ـ ستوكهولم 2012  
13ـ أنشودة الحياة ـ الجّزء الثَّالث، نصّ مفتوح ـ ستوكهولم 2012     
14 ـ حوار  د. ليساندرو مع صبري يوسف ـ 1 ـ ستوكهولم 2012  
15 ـ ديـريك يا شـهقةَ الرُّوح ـ نصوص أدبيّة، ستوكهولم 2012
16 ـ حوارات مع صبري يوسف حول تجربته الأدبيّة والفنّية ـ 2 ـ ستوكهولم 2012
17 ـ حوارات مع صبري يوسف حول تجربته الأدبيّة والفنّية ـ 3 ـ ستوكهولم 2012
18 ـ مقالات أدبيّة سياسـيّة اجتـماعيّة ـ 1 ـ ستوكهولـم 2012
19 ـ مقالات أدبيّة سياسـيّة اجتـماعيّة ـ 2 ـ ستوكـهولم 2012
20 ـ رحـلة فسيـحة في رحـاب بنـاء القصـيدة عنـد الشَّاعـر الأب يوسف سعيد ـ ستـوكهولم ـ 2012
21 ـ أنشودة الحياة ـ الجّزء الرَّابع، نصّ مفتوح، ستوكهولم 2012   
22 ـ أنشودة الحياة ـ الجّزء الخامس، نصّ مفتوح، ستوكهولم 2012                                                  
23 ـ أنشودة الحياة ـ الجّزء السَّادس، نصّ مفتوح، ستوكهولم 2012
24 ـ أنشودة الحياة ـ الجّزء السَّابع، نصّ مفتوح، ستوكهولم 2012        
25 ـ أنشودة الحياة ـ الجّزء الثَّامن، نصّ مفتوح، ستوكهولم 2012
26 ـ أنشودة الحياة ـ الجّزء التَّاسع، نصّ مفتوح، ستوكهولم 2012
27. أنشودة الحياة ـ الجّزء العاشر، نصّ مفتوح، ستوكهولم 2013 
* يعمل على نصّ مفتوح، "أنشودة الحياة"، قصيدة شعريّة ذات نَفَس ملحمي، طويلة جدّاً، تتألّف من عدّة أجزاء، كل جزء (مائة صفحة) بمثابة ديوان مستقل ومرتبط بنفس الوقت مع الأجزاء اللَّاحقة، أنجز حتّى الآن الجّزء العاشر، .... يتناول قضايا إنسانيّة وحياتيّة عديدة، مركِّزاً على علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان كمحور لبناء هذا النَّصّ.      
* تمّ تحويل الجزء الأوّل من أنشودة الحياة إلى سيناريو لفيلم سينمائي طويل من قبل المخرج والسِّيناريست اليمني حميد عقبي وقدّمه كأحد محاور رسالة الماجستير في باريس.
* إشتغل مديراً لبرنامج "بطاقات ثقافيّة" في الفضائيّة السّريانية، صورويو  TV  في القسم العربي وقدّم عدّة لقاءات عبر برنامجه مع كتّاب وشعراء وفنَّانين ومؤرّخين حتَّى غاية عام 2004.
* تمّ إختياره مع مجموعة من الشّعراء والشّاعرات في ستوكهولم للمساهمة في إصدار أنطولوجيا شعريّة باللُّغة السُّويديّة حول السّلام 2005، وتمَّ ترجمة بعض نتاجاته إلى السُّويديّة والإنكليزيّة والإسبانيّة.  
* يكتب القصّة القصيرة، قصيدة النّثر، النّصّ، المقال، ولديه اهتمام كبير في الحوار  والرِّواية والتّرجمة والدِّراسات التَّحليليّة والنّقديّة والرَّسم والنَّحت والموسيقى! 
* ينشر نتاجاته في بعض الصّحف والمجلات والمواقع الالكترونيّة.
* شارك في العديد من الأماسي الشّعرية والقصصيّة والنَّدوات الأدبيّة في الوطن الأم سورية والعراق وكردستان وفي السّويد. 
* أقام مهرجان تأبين أدبي كبير في ستوكهولم للشاعر الرّاحل الأب د. يوسف سعيد، شارك فيه أكثر من 25 شاعر وشاعرة وكاتب وناقد وباحث من الكثير من دول العالم، وأعدَّ وأصدر كلّ المشاركات في كتاب خاص!
* مقيم في ستوكهولم ـ السُّويد منذ عام 1990.


صبري يوسف يصرّح للشّاعر:
لوحاتي وأشعاري مستنبتة من رحاب الحبِّ والفرح والسَّلام

أجرى الحوار نصر سامي:

لم ألتق به من قبل، التقيت بأعماله، مساحات من الصَّفاء، والعمق وألوان تخفي أسراراً كثيرة ودنى خبيئة، في شعره وفي أعماله التَّشكيليّة يتشكّل عالم متخيّل ثريّ مذهل يأخذك إلى فضاءات الدّهشة والمحبَّات والتَّصوّف، يلحّ على أنّه سفير سلام، أمّا أنا فأرى في أعماله قدرة على التَّحليق والإيمان بالإنسان المطلق القادر على الخلق والخلود ومقاومة النّسيان والبلى، في ترحاله من سوريا إلى استوكهولم تغيّرت أعماله، وتعمّقت، وأصبحت جغرافيا ممتدّة لتحضن تواريخ أخرى صاغها الشَّاعر، يغيب منها العنف والخوف والموت، تنبئ أعماله بعالم أبيض مضيء عادل وصادق. وهو يؤمن بالإنسان الكوني وباللُّغة الكونيّة، في حوار الوسط معه يعترف ويبرّر ويقرأ .. ويستنطق الجَّمال.

تقمّطْتُ بإخضرارِ الطَّبيعة مع حبق اللَّون

ترعرَعْتُ في بيئة فلاحيّة، حيثُ استقبلتني سهول القمح على صوت زقزقات العصافير، وهسيس الكائنات البرّية، قمّطني اخضرار الطَّبيعة وكروم المالكيّة/ديريك، فقد كان اللَّون، القصيدة الأعمق في حياتي منذ أن فتحْتُ عيني على وجه الدُّنيا!
طموحٌ من نكهةِ الصُّعودِ إلى أعلى القمم راودني منذُ أن كتبتُ الحرف الأوَّل، منحتني بيئتي الفلاحيّة الصَّفاء والنّقاء والصَّبر في التَّعامل مع دراساتي ومتابعاتي واهتماماتي الأدبيّة والفنّية والفكريّة، وصقلَتْ آفاقي عبر تجاربي ومتابعاتي وقراءاتي المتواصلة، وستبقى البيئة هي الأرضيّة والمعين الَّذي اغترفُ منه تدفُّقات إبداعي على كافّة المناحي!
حصلتُ على ثلاث بكالوريات أدبيّة، تابعت دراستي عبر الأولى بالصَّف الخاص، نظام السَّنة الواحدة، كأقرب طريق إلى لقمة الخبز! ثم التحقتُ بالثَّانية بجامعة حلب قسم الأدب الإنكليزي، وإنتقلت إلى السَّنة الثَّانية ثم توقّفت عن متابعة دراستي لأسباب بكائيّة، وفي الثَّالثة التحقت بجامعة دمشق دراسات فلسفيّة وإجتماعيّة وتخرّجت بتقدير جيد في شعبة علم الإجتماع!

اشتغلتُ مدرسِّاً في إعداديات وثانويات المالكيّة 13 سنة في الوطن الأم ثمَّ عبرْتُ البحارَ بحثاً عن أبجدياتٍ جديدة للإبداع.

أطلُّ من ستوكهولم على العالم من خلال حرفي

حالما وطأَتْ أقدامي على أرض ممكلة السُّويد، خطَّطْتُ أن أطلَّ من ستوكهولم على العالم من خلال حرفي، فبدأتُ ألملمُ أوراقي، أحرقتُ كتابات المرحلة الأولى الّتي كتبتها في الوطن الأم، “رواية مخطوطة، والكثير من القصائد والنُّصوص والخواطر والقصص القصيرة”، وإحتفظت بقصة قصيرة واحدة من كلِّ تلك المرحلة! لأنَّني وجدتُها كتاباتٍ منقوصة، وتحتاج إلى الكثير من العمق والتَّقنيات الفنِّية والتَّدفُّقات الإنسيابيّة، وبدأتُ أفرش رؤاي وأحداث ومواقف لأستنبط منها قصصاً وأشعاراً ونصوصاً ومقالات. دائماً كنتُ أراني قلِقَاً قَلَقَاً إبداعيّاً، مندفعاً بحماسٍ كبير لترجمة طموحاتي وآفاقي الحلميّة!
كتبتُ بشكل مستمر على مدى أكثر من عقدين من اغترابي، أصدرتُ مجموعتي القصصيّة الأولى في ستوكهولم 1997، ثم أسَّست دار نشر صبري يوسف، وأصدرت عبر دار نشري 16 ديوان شعري، ومجموعتَين قصصيتَين، ومجموعة كتب تتضمَّن نصوصاً أدبيّة ودراسات تحليليّة ومقالات أدبيّة سياسيّة فكريّة، وحوارات أُجريَتْ معي وأخرى أجريتها مع مبدعين!
ترجمْتُ ديوانَين من دواويني الشِّعريّة إلى اللُّغة السُّويديّة، روحي شراعٌ مسافر، وطقوس فرحي، لخلق جسر ثقافي بيني وبين الآخر، ولاقَتْ قصائدي استحسان القارئ السُّويدي، ووجدَ فيها صوراً غنيّة بالحبِّ والحنين والسَّلام والفرح والطُّفولة والغربة والتَّآخي الإنساني، كما وجدني عبر نصوصي ضدَّ الحروب المميتة الَّتي تقودُ إلى صراعاتِ الإنسان مع أخيه الإنسان!
أسَّست مؤخّراً مجلّة سنويَّة بعنوان السَّلام وهي مجلّة مستقلِّة وأتلقّى نصوصاً ومواضيع متعدِّدة تخصُّ السَّلام الإنساني ككل! أرى من الضّروري أن يتمَّ تغيير الواقع العربي من المحيط إلى الخليج، عبر إعادة صياغة رؤانا في بناء إنسان سوي وسليم، بعيداً عن التَّعصُّب الدِّيني والمذهبي والقومي والإثني، على أن يكون المواطن كمواطن هو الأساس الَّذي ينطلق منه كلّ مواطن في بناء الوطن، لأنَّ الأوطان تمزّقَتْ من خلال عدم توفُّر فكر تنويري حضاري تقدُّمي إنساني نسير عليه!

شغفي العميق في عوالم اللَّون، قادني إلى فضاءات التَّشكيل

منحتني الطَّبيعة والبيئة الَّتي نشأت فيها، مخزوناً عميقاً وطاقات لونيّة ظلَّتْ منقوشة في ثنايا اللاشعور الضُّمني، وكنتُ شغوفاً منذ بواكير عمري بالخطِّ العربي، وبالرَّسم والتَّشكيل وتذوّق الجَّمال، لهذا كان أغلب أصدقائي من الكتَّاب والشُّعراء والفنَّانين التَّشكيليين، وحضرْتُ معارضهم والكثير من المعارض في ديريك مسقط رأسي وفي دمشق، فتشبّعْتُ بهذا الحبق اللَّوني ابتداءً من الطَّبيعة، ومروراً بمحطَّات عمري وصداقاتي ومتابعاتي، إلى أنَّ حطّ بي الرِّحال في ستوكهولم عام 1990، وإذ بي بين أحضان عاصمة مقمَّطة بالبحيرات والجَّمال والغابات الخلابة.

تشبه ستوكهولم أنثى عاشقة ومعشوقة على الدَّوام! تنام على مناغات النَّوارس وحنين العشَّاق وشوق الشُّعراء والفنَّانين إلى وهج الإبداع. بعد أن كتبتُ عشرات القصص القصيرة، والنّصوص والمقالات والحوارات في هذه العاصمة الهادئة، هبطَتْ عليّ فجأة عام 2004 رغبة عارمة للدخول في عالم اللَّون والرَّسم والتَّشكيل، رغبة لم أستطِعْ مقاومتها على الإطلاق! كمَنْ يكون صائماً عقوداً من الزَّمن عن أكلة لذيذة يحبُّها فيفطر عليها بشهيّة عميقة، وهكذا وفي ليلة من ليالي ستوكهولم تبرعم في قلبي وكياني وروحي وخيالي هاجس كبير وشغف عميق لمداعبة اللَّون، ففرشْتُ ألواني وفرشاتي وسكاكيني “الخاصّة بالرَّسم” وأقمشة اللَّوحات البيضاء تنتظر عناقي المفتوح بشهيّةٍ لا تقاوم! وبدأتُ أرسم كما يرسم طفل ما يراوده، ويبدو أنّني فنّان تشكيلي بالفطرة، بالمخزون اللَّوني والجّمالي، اللَّوحة عندي ترسم ذاتها، تتدفّق بألوانها وتفاصيلها وتماهياتها، مثلما تتدفَّق قصائدي الشِّعريّة.

أنظر إلى نفسي أحياناً كجزء من الطّبيعة، كشجرة، كوردة، كجبل، كنهر متدفِّق، كبسمة طفل، كحنين عاشق إلى صدر حبيبة. لا أنظر إلى نفسي كانسان فقط، غالباً ما أراني كجزء منبعث من شهقة الطَّبيعة على الأرض، لديّ طاقات وإنشغالات إبداعيّة عديدة، أحياناً تدهشني هذه الطّاقات والجُّموحات المتدفِّقة في الكثير من الأجناس الإبداعيّة، وتنبع من أعماقي الخفيّة، بطريقة حلميّة، مثلما يتدفّق الماء من بواطن الأرض، أو يتهاطل المطر من مآقي السَّماء، حتّى انّني أشعر عندما أسير تحت المطر النّاعم أنّه يعانقني وأنّه صديقي، وأتحاور معه ويتحاور معي، كأنّني أجزاء متطايرة من رذاذاته.

مواضيع لوحاتي منبعثة من رحابِ الفرح والحبِّ والسَّلام

رسمتُ خلال فترةٍ قصيرة (ثماني سنوات) أكثر من 300 لوحة تشكيليّة، فجأةً وبعد أن قدَّمْتُ أكثر من معرض في ستوكهولم، قرَّرتُ أن التحق بجامعة ستوكهولم لدراسة الفن التَّشكيلي وتخرّجت كمدرّس لتدريس مادَّة الرَّسم، قدّمْتُ سبعة معارض فرديّة وعدّة معارض مشتركة في ستوكهولم. أعشق جمال الطَّبيعة، الأزاهير والمرأة رسمتها زهرة، فراشة، قمر…  وإنَّ مفاهيم الحبّ والفرح والسَّلام هي جوهر مواضيع لوحاتي الَّتي أرسمها، ومَن يتابعني بدقّة يكتشف أنَّ فنّي هو مرآة روحي وقلبي وشهقتي الجَّانحة نحو حيثيات هذه المفاهيم العميقة في الحياة. ولديّ معرض في شهر تشرين الأول (أكتوبر) القادم في غاليري المركز الثّقافي العراقي في ستوكهولم، سأعرض فيه مائة لوحة بعنوان: حب وفرح وسلام صبري يوسف.

الشِّعر والرَّسم وجهان لعشقٍ واحد هو الإبداع

أرسم بأسلوب عفوي، حلمي، انسيابي وبمتعة عميقة. تولد اللَّوحة غالباً بطريقة غير مخطَّط لها، تنمو وتترعرع مثل القصيدة بطريقة غير متوقَّعة، أرسمُ أعمالي بالسِّكِّين والفرشاة النَّاعمة، بأسلوب شاعري فطري طفولي حُلمي تخيُّلي، وبعدّةِ مدارس فنّية، بعيداً عن التَّقيّد بأساليب معيّنة في عالم الفنِّ، فلا أتوقّف عند مدرسة أو تيّار فنِّي معيَّن، بقدر ما أتوقَّف عند مشاعري العفويّة المتدفِّقة مثل حنين العشَّاق إلى أعماق تجلِّيات الرُّوح، أو مثلَ شلالٍ يتدفّقُ من أعالي الجِّبال، أو كشهقةِ طفلٍ لاشراقةِ الشَّمسِ في صباحٍ باكر، حيث تتداخل عدّة أساليب في اللَّوحة الواحدة، وغالباً ما تتدفّق هذه الألوان بشكل عفوي حلمي تأمُّلاتي، ثمَّ تتوالد الأفكار وتتطوّر وتتناغم الألوان خلال عمليات الرَّسم، ويتميّز الأسلوب الَّذي أشتغل عليه بالتَّدفُّقاتِ اللَّونيّة وموشور إنسيابيّة الأفكار ضمن إيقاع لوني فيه من الموسيقى والرّقص والفرح والحنين إلى عوالم الطُّفولة والشَّباب والحياة بكلِّ رحابها، وكأنّي أكتب شعراً عبر اللَّون، لهذا أرى: “أنَّ الشّعر والرَّسم وجهان لعشقٍ واحد هو الإبداع”!

تطهير وتنقية الرُّوح والقلب من شوائب الحياة

الرَّسم والكتابة هما حاجة روحيّة، فكريّة، عشقيّة، كأنّهما بلسم شافٍ، يطهّرانني من سمومِ وشرورِ الحياة، أرسم كَمَنْ يتعبّد في معبد خاص بتطهير وتنقية الرُّوح والقلب من شوائب الحياة في هذا الزَّمن الأحمق! عندما أرسم، أشعر وكأنّني أتمم فضاءات القصائد الَّتي تطايرَتْ من مخيَّلتي ولم أستطِع الإمساك بها لحظة الكتابة، فانبعثَتْ من جديد عبر تناغمات الألوان. وأحياناً، أكتب نصّاً شعريّاً، وكأنّني استكمل فضاءات لوحة تدفّقَتْ انسيابيّة رذاذاتها من خيالي ولم أستطِع الإمساك بكلِّ تفاصيلها، فتوغَّلَتْ مسترخيةً في لاشعوري الضُّمني، ثمَّ نهضَتْ متوفّزة بإيقاعٍ شعري وكأنّها الجّزء المتمّم للوحة.

تتنحّى فكرة من خلال ولادة أفكار جديدة من الفكرة المتنحّية

أرسم أحياناً فكرة ما ثمَّ تولد فكرة جديدة مستوحاة من الأولى فتتنحّى الأولى، تسطع الفكرة الجَّديدة متألِّقة بكلِّ حفاوتها أمامي، فأركّز عليها، تتزاحم الأفكار لحظة انبعاث الإشراقة الإبداعيّة خلال الرّسم، تجرفني هواجس الرَّسم، وتفرُّعات الأفكار والألوان، أشعر أحياناً أنّني متعانق في غابة لونيّة متدفِّقة من كلِّ الأطراف، تنمو اللَّوحة بتفاصيلها ورموزها وتشعُّباتها بعفويّة جامحة، عندما تكتمل اللَّوحة، أنظر إليها وكأنّني على حوار مع الكائنات الصَّغيرة والتَّفاصيل والرُّموز الَّتي رسمتها، تتحوَّل اللَّوحة أمامي إلى حالة انتعاشيّة، أنظر إلى ألوانها وتناغماتها باستمتاعٍ عميق، وأسمع إلى موسيقى هادئة، فتحرِّضني بعض اللَّوحات على استلهام اشراقات شعريّة، فأغمس حبري متوغِّلاً في بحبوحةِ الإشراقات.

متعة الإبداع لا يضاهيها أيّة متعة أخرى على وجه الدُّنيا

أرسمُ لأنَّ الرَّسم يمنحني متعة عميقة، وأرى متعةَ الإبداع بكلَّ أجناسه وأشكاله، لا تضاهيها متعة أخرى على وجه الدُّنيا! حيثُ يمنحني الإبداع فرحاً عميقاً، يمسح أحزاني وآهاتي ويخفِّف عنِّي جراحَ غربتي في الحياة، ويجعلني أشعر أنَّ هناك هدف كبير يستحقُّ أن أعيشَ من أجله طوال حياتي، لأنّني من خلال حرفي ولوني أقدِّم تفاؤلي وأملي وأبهى ما لديّ من رؤى وأفكار وتطلُّعات للقارئ، وأعرف أنَّ هذه الحميميات الإبداعيّة المنبعثة من عوالمي ستبقى ساطعةً على وجنةِ الحياة!

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق