إن الحرية المطلقة التي تمارسها الأديبة المصرية سلوى بكر في مجمل أعمالها القصصية والروائية، تجعلنا نقرأ تلك النصوص بعين الناقد لا القارئ العادي، لأنها تقدم معطيات وثائقية تظهر المدى الواسع الذي يجب أن تتحرك فيه الموجة الأدبية، دون التخفي وراء أقنعة وهمية في عملية الكتابة. وقد ارتأينا في هذه المقالة أن نقف عند روايتها الموسومة "ليل ونهار" التي دفعتنا منذ أولى صفحاتها لنتساءل كالآتي: هل كتبت المبدعة سلوى بكر هذا العمل الروائي لكشف خبايا مهنة الصحافة إجمالا؟، وهذا جاء بناء على جملة في الصفحة الأولى تشد الانتباه أين نقرأ ما يلي: "لا حماس في روحي ولا شعور بأي أمل، لا شجر أستظل به في الطريق غير شجرة اليأس المورقة، المزدهرة دوما في داخلي، على رغم ما تطالعني به الصحف كل يوم، كل شيء في تمام التمام: وطن حر وشعب سعيد." (ص 05).
من سيقبل على قراءة "ليل ونهار" سيكتشف أن البطلة "سوسن أبو الفضل" تعمل كصحفية في مجلة تحمل نفس عنوان الرواية (ليل ونهار) وهذه الأخيرة لا تهتم إلا بنجوم السينما والمجتمع، وتفاصيل الحياة الشخصية الفارغة لكل منهم كما نقرأ على لسان الساردة: "مجلة 'ليل ونهار' مطبوعة تصدر يوم الخميس من كل أسبوع، وهي تتشابه وعشرات المطبوعات الأخرى المعروضة في سوق الصحافة، طباعة فاخرة على ورق لامع مصقول، إخراج جذاب مبهر، ومادة رخيصة تافهة تعتمد على أخبار نجوم السينما والمجتمع في الأساس وتلهث وراء تفاصيل الحياة الشخصية واليومية لهم بكل ما فيها من خفايا وأسرار، وتروج المجلة لكل ما هو بذىء ورخيص في حدود ما يسمح به القانون." (ص 33).
إذن تفتتح رواية "ليل ونهار" حديثها عن شخصية رئيس المجلة "حسن عبد الفتاح" الذي وصفته المبدعة سلوى بكر بالسمسار الجبار، وكأنها تستنطق عينة لا تزال موجودة للأسف الشديد في وطننا العربي المعروفة بنواياها الخبيثة بشكل عام: "...حسن عبد الفتاح أراد توريطي في عمل قذر، وحتى إذا لم يكن حسن على علم بكل هذه التفاصيل، والهدف من ورائها، فهو - في النهاية - متواطئ مع هذا 'المنجز أبو السريع'، ورئيس التحرير من المحتمل أن يكون قد طبخها معه في الكواليس أيضا." (ص 11). و من تم تنطلق الصحفية "سوسن" في سرد أحداث ثيمة الرواية التي تتمثل في موضوع مسابقة، حيث أطلقت العنان لأفكارها محاولة معرفة سر خفي سيجعل كل مشترك يتقدم بفكرة جديدة قابلة للتطبيق الفوري إلى الحصول على مبلغ مالي قدره مليون جنيه، وهذا لأن فكرته ستعود حتما بفائدة كبيرة للمجتمع والناس.
وكلنا يعلم أن الوصف عنصر جمالي يتصل بالبنية الروائية، وهذا ما وظفته بكر ببراعة في أول مقابلة جمعت بطلتها الصحفية بصاحب مشروع المسابقة "زاهر كريم" كونها المسئولة عن بريد القراء: "...أتخيل الرجل القادم للقائى كمعظم رجال الأعمال، والوزراء، والرؤساء، وكل الشخصيات الأخرى المتسلطة في البلد، والتي تظهر صورها دوما على صفحات الجرائد وقنوات التلفزيونك قبيح، أصلع، بكرش منفوخ، وشفاه رقيقة، ونظرات عنيفة متوعدة. تنهدت مرة أخرى في محاولة منى للاستعداد لابتلاع جرعة إضافية من القرف المزمن في حياتى." (ص 07).
إن لغة الوصف ترسم ملامح الشخصية وتستنبط دواخلها، كما أنها تجسد المكان أيضا وتصف بدورها الزمان. وكسبيل المثال نذكر ما جاء في تجسيد المكان ما يلي: "أدخلتنى السكرتيرة إياها هذه المرة إلى حجرة مكتبه، حجرة فسيحة أنيقة، تحتوى على مجموعة أثاث مكتبى قديم، خشب محفور على الطراز الهندى، حيث غلبت التوريقات النباتية والأشكال الحيوانية، لوحات فنية على الحوائط. في مواجهة مكتبه على الحائط خريطة قديمة لمصر داخل إطار خشبى قديم مشغول بالصدف والفضة، وعندما فتح الباب ودخل، كنت أحاول قراءة حروف مواقعها الباهتة الدقيقة، وأخمن الزمن الذي رسمت فيه." (ص 26).
فضلت "سوسن أبو الفضل" الهروب من مسئولية المسابقة متحججة بتحضيرها لرسالة ماجستير تتطرق فيها لجملة المشاكل الاجتماعية المعاصرة من خلال بريد القراء في الصحف والمجلات لكن "زاهر كريم" استعمل لعبة المكافأة لإيقاعها في شباك الاستسلام لفرصة العمر حيث نقرأ مايلي: "- أنا قررت للصحفى الذي سيقوم بهذا العمل مكافأة من عندى، رصدت عشرة آلاف جنيه كمكافأة لعملية الفرز والتصنيف." (ص 13).
حاولت المبدعة سلوى بكر إبراز ملامح الوعي لدى البطلة في مرحلة يسميها النقاد بمرحلة "ما قبل الكلام"، وكأنها تحاول بطريقة أخرى الكشف عن الكيان النفسي للشخصية ونذكر المثال الآتي على لسان الساردة: "يبدو لي وكأنه مطب كبير، وأنا لا أحب المطبات ولست بقادرة عليها.. لا. علي التوقف بسرعة وإلا سأدخل في حكاية لا يعلمها إلا الله." (ص 13).
وظفت بكر الرمز كتكنيك تعبيري غير مباشر عن الخبايا النفسية، ورواية "ليل ونهار" تأسست حسبما نستخلصه من تكرار قراءتها من هذا الجانب، حيث نذكر المثال الآتي عن سر مسابقة "زاهر كريم" : "...كنت أتعامل مع الناس والأشياء هنا كسائح يستمتع بقضاء وقت في بلد له نكهته الخاصة، لكنى بعدما انخرطت في دنيا الأعمال، اكتشفت أننى أعرف بالكاد شيئا قليلا عن هذا البلد، الذي أحاول الانتماء إليه، لذلك بدأت أختلط بالناس في مجالات ومستويات اجتماعية مختلفة، لكنى فوجئت بأننى كلما توغلت في معرفة الناس أكثر، زاد جهلى بهم، وبدت لى هذه المدينة متعددة الأقنعة، بالأحرى، هي مدينة تمتلك عددا هائلا من الأقنعة التى كلما خلعت قناعا منها عن وجهها فوجئت بقناع سري جديد يختبئ تحت القناع المخلوع، لقد صاحبت حشاشين، وأناسا نصابين، وعاهرات في ملاهى الدرجة العاشرة، وعرفت متسولين، وباعة جائلين، وأناسا من الطبقة الوسطى، كما عشت لشهور في الريف بين الفلاحين، وصعدت شمالا حتى أتعرف على حياة الصيادين، لكنى ما تمكنت من معرفة الناس هنا أبدا، حقيقتهم التي يمكن أن تقودنى إلى حقيقتى." (ص 44). ومن هنا نستخلص أن لغز المسابقة هو سعي صاحبها لمعرفة كيف يفكر الناس في يومياتهم، محاولا اكتشاف مشاكلهم وهمومهم وآمالهم وأمنياتهم، وهذا ما تركز عليه "كاتبة المهمشين" سلوى بكر في مجمل أعمالها الأدبية بشكل عام.
والواضح في الرواية أن بكر تريد رفع النقاب عن بعض الأمور الخفية في المجتمع عموما وفي مهنة المتاعب على وجه الخصوص حيث نقرأ على لسان "سوسن" مايلي: "- حسن عبد الفتاح كذاب كبير، ونموذج للصحفى الوقح، كل مهنة فيها أناس أمثاله لا يتورعون عن عمل أي شيء. مستحيل أن تتدخل أية جهة مهما كان وضعها في المسابقة. أنا واثقة أن حسنا يعمل لحسابه وكل الخطابات التي جاءنى بها، لا يعقل أن تكون صادرة عن جهات عليا أو جهات سفلى. في تقديرى أن حسنا هو الذي ألف هذه الخطابات بنفسه أو ربما بالاتفاق مع رئيس التحرير." (ص 73). وفي مثال آخر على لسان "زاهر" نقرأ كذلك: "- تصوري؟!. مستشفى حكومى كبير ومشهور دون أدنى استعدادات. اضطررنا إلى شراء كل شيء من خارج المستشفى، والولد دمه نازف في غرفة العمليات حتى القطن الطبي والشاش، والمطهر وخيوط العملية والحقن، اشترينا كل ذلك من خارج المستشفى، والمصيبة أنه لا يوجد دم في المستشفى، لكن ربنا ستر، وظهر أن فصيلة دمي مناسبة له..." (ص 71).
استعانت المبدعة سلوى بكر بتكنيك الكتابة السينمائية حيث نجد مقاطع تصويرية تتوزع على مشاهد ولقطات واسعة ونذكر في هذا المضمار الآتي: "- العم حسين نموذج ينتمي إلى زمن راح وانقضى، كان كل شيء فيه ثابتا، راسخا، هذا الزمن انتهى تماما. كمية التغيرات واللخبطة في كل نواحي الحياة الآن، مذهلة جدا، كأنها طوفان قلب الدنيا وجاء بنماذج من نوع حسن عبد الفتاح لتهيمن وتكون على السطح، العم حسين من زمن قديم، أثر من زمن كان وتبدد." (ص 77).
ما يشد الانتباه خلال تتبع الأحداث وتواليها هو وقوع البطلة "سوسن" في غرام "زاهر" فهي تراه فارس أحلامها بلا منازع حيث نقرأ على لسان الساردة ما يلي: "أريد أن أطير، أن أركب الريح، أن أغمض عينى وأفتحهما فأجده أمامي لأكون معه بعيدا عن حسن عبد الفتاح والسجل المدني، وضجيج الشارع، والحر، والتراب، ووساخة الطريق. أنا بالفعل أحتاج إلى إنسان، أحتاج إلى هذا الرجل على وجه التحديد، إني مغرمة به تماما، على رغم كل جنونه، وشخصيته الغريبة ومزاحه غير المفهوم بالنسبة إلي." (ص 68-69).
تجدر الإشارة إلى مسألة حساسة وهي موضوع الجنس الذي أرادت المبدعة سلوى بكر التطرق إليه بشكل غير مباشر لأنه لا يزال من مواضيع الطابوهات الممنوعة في الوسط العربي وقد جاء في خطاب لأحد المتسابقين كما يلي: "والغريب أن الجميع في المجتمع يحاولون الظهور بمظهر الغير المكترث بالجنس، بينما هم غارقون في المشكلة حتى آذانهم، فأنت إذا ما جبت بسيارتك شوارع المدينة قرب منتصف الليل، فلسوف تكتشف أن معظم سكانها غائبون داخل غرف النوم، ولو عرفت حجم المشاهدين لأفلام الجنس يوميا، بعد أن ينام الأطفال، فسوف تذهل حقا، إن الليل هو الوجه الآخر لأولئك الوقورين والمحتشمين، الذين تراهم في المدينة خلال النهار." (ص 57).
وأما في آخر صفحات رواية "ليل ونهار" سيكتشف القارئ الملاحظ مسألة التزوير التي وقعت في شأن الفائز بالمسابقة وهي مجرد صورة من مجمل الصور التي نعيشها في وطننا العربي حاليا كما تقول الساردة: "أعلن رئيس مجلس إدارة المؤسسة اسم الفائزة بعد أن أمسك بالميكروفون، كان اسمه إبراهيم حفنى عبد السلام، عن رسالته التي تطالب بإنشاء جمعية تهتم بضحايا الزلازل والسيول. بهت، إذن فقد تلاعب حسن عبد الفتاح ورئيس التحرير في نتيجة المسابقة، وخدعا زاهر كريم." (ص 101).
وفي الختام، يمكن أن نقول أن هذا العمل الروائي للمصرية سلوى بكر يدخل ضمن إطار سوسيولوجيا الأدب لما يعكسه من تيار الوعي من منطلق اللاوعي الاجتماعي داخل المتخيل السردي، خصوصا أننا وقفنا أمام وثيقة اجتماعية صادقة استجلت العديد من الوقائع والأحداث التي بات يعيشها الوطن العربي، وقد عبرت عنها "كاتبة المهمشين" بأسلوب فني وبلاغي جميل يستحق أكثر من وقفة.
المصدر
(1) سلوى بكر: ليل ونهار، مكتبة مدبولى، ط 2، 2004.
0 comments:
إرسال تعليق