قراءة تحليليّة لديوان الشَّاعرة أسماء غريب 99 قصيدة عنك الصّادر عن دار الفرات للثقافة والإعلام

كتب صبري يوسف ــ ستوكهولم
من خلالِ قراءتي لتجربة الشّاعرة أسماء غريب، تلمَّستُ وكأنَّ حرفها مندلقٌ من خاصرةِ نيزكٍ، مشبَّعٌ بإشراقةِ وهجِ الرُّوح. حرفٌ يستنهضُ أحلاماً غافية بين وهادِ النِّسيان، منتشِلاً إيَّاها نحو ظلالِ القصيدة البكر. تكتبُ نصَّها من وحي تراكمات مشارب ثقافيّة فكريّة أدبيّة حياتيّة غزيرة، كأنَّها في رحلةِ استكشافٍ حلميّة لاستشرافِ أنقى ما في تجاعيد الذَّاكرة، وتجسيدها في رحابِ خيالٍ فسيح متعانق مع تهاطلاتِ إشراقة الحرف على مرامي أسرارِ اللَّيل. حرفُها من طينِ المحبَّة، من مذاقِ قبلةِ الشَّمسِ لنسيمِ الصَّباح، من وهجِ عشقٍ معرَّشٍ في أدغالِ البساتين، من هدوءِ اللَّيلِ الهائم في عناقِ بهجة إندهاشِ القصائد! 
تتدفَّقُ بإنسيابيّة شفيفة بأفكارٍ ورؤى مجنّحة بأجنحةٍ مماثلة لطيورِ الجّنَّة، تتناثرُ رؤاها على مسارِ بهاءِ الشِّعرِ، كأنّ عوالمها محبوكة بنغماتِ موسيقى متماهية مع تراقصاتِ خيالٍ متدفِّقٍ على إيقاعِ شلالٍ منسابٍ مع شهقةِ الفرح. تداعبُ عرشَ الحروفِ، وتغوصُ في أعماقِ دهشةِ الإشتعالِ، ثمّ ترسمُ بإنتعاشٍ عارم رغبات مكتنزة في ظلالِ الرُّوحِ منذُ أمدٍ بعيد، حرفُها ينبعثُ من أشجارِ الحنين، ينسابُ خيالها بين شغافِ الحروفِ كرذاذاتِ مطرٍ ناعم، فتولدُ انبعاثات وميض البوح من أعماقِ أحلامٍ متوارية في متاهاتِ الزّمن، فتنسجُ ألقاً شعريَّاً متجدِّداً فوقَ سموِّ الإبتهال.   
كيفَ تلملمُ هذه الدَّهشة فوقَ هلالاتِ الحروفِ؟ هل تشكَّلت مزاميرها من حليب السَّنابل أم تبرعمت من مساحاتِ الخيال عبر انبلاجِ خيوطِ الشَّوقِ إلى هالاتِ قداسةِ الكلمة منذ أن انبثقت من قبَّةِ السّماء فوقَ سديم البحار، وإنسابت مسترخيةً فوقَ ينابيع منارةِ الرّوح؟! كيف تموسقُ منارة البوح مع تيجان القصيدة، في أتون إنشراخات هذا الزَّمان؟! زمنٌ تائهٌ في مهبِّ الإنحدار، تنجو القصيدة من شفير الإنزلاقِ في شراهاتِ العبورِ في فخاخِ الشُّرور، وحدُها القصيدة تناغي أبهى ما في ثمارِ الرّوح!
أسمعُ هدهداتِ اليمامِ في حنايا حرفها، تبتهلُ لحنينِ السّماءِ وتغدقُ أطيبَ الثِّمارِ فوقَ طراوةِ الأرضِ، تمتازُ بذاكرة مشبوبة بالصَّفاء كأنّها مصطفية من عذوبة البحر، فأرى شاعرة مشرئبّة برحيقِ حرفٍ مزدانٍ بأنوارِ شموعٍ حالمة بالضِّياء، شاعرة مفعمة بشذى بخورِ القناديل، تنثرُ بهاءَ القصيدِ على مساحاتِ حلمٍ مجدولٍ من ينابيعِ الرُّوحِ المبلَّلة بحبقِ الحياة. هل تستمدُّ بوحَها من إشراقةِ الشّمسِ، على إيقاعِ رفرفاتِ أجنحةِ العصافير في صباحٍ مندَّى بهبوبِ النَّسيمِ، أم من تراقصاتِ موجاتِ البحرِ، أو من بسمةِ الأطفالِ وهم يغفونَ فوقَ أبهى مآقي الزُّهورِ؟!   
نصُّها يشبه طفلة مسكونة بعصافير النَّعيم، كأنّه متجذِّرٌ بأشجارٍ باسقة مخضَّلة بشهوةِ الإخضرار،  وشامخة شموخَ جبالٍ مسروجة بحنينِ البحار، يبدو نصُّها في بعضِ تجلِّياته كأنّه طنين نحلة تحومُ حول بهاء فراشاتٍ مسترخية فوقَ بتلاتِ زهرةٍ مكسوَّة بزغبِ القصيدِ، تلتقطُ صوراً هاربة من واحاتِ الخيال، مندهشة من قدرةِ الحرفِ على عبورِ أهازيجِ الرُّؤى المتناثرة فوق تيجانِ العمر. تموجُ حروفُها في ثنايا البوحِ فرحاً متماهياً معَ بهجةِ الطّبيعةِ، وتهمسُ لروحِها بكلِّ إنتعاشٍ، نِعمةُ النِّعَمِ أن نعانقَ روعةَ الغاباتِ، ونتمتّعَ بجمالِ الكونِ ونستوحي عبيرَ الحرفِ من خميرةِ الحياةِ. 
عندما أقرؤها، أشعرُ وكأنَّ طاقة فرحٍ تغمر صباحي، تنعشُ ليلي الغافي على وشوشات البحر، شعرها مصحوبٌ بتغريدِ الأملِ، مزدانٌ بتلاوين سموِّ الرّوحِ، حرفُها رسالةٌ ممهورةٌ بحفاوةِ العشقِ، هل تستلهمُ حرفَها من بخورِ الوفاء، من نورِ القداساتِ، من ابتهالاتِ شموخِ القلبِ؟! هل تكتبُ القصيدة من وحي تجلِّياتِ الرّوحِ وهي تحلِّقُ بين هلالاتِ زرقةِ السّماءِ، أم أنَّها تستلهمُ حرفَها من تلألؤاتِ النُّجوم الغافية بين منعرجاتِ أحلامِ الطُّفولة؟! .. طموحُها جانحٌ نحوَ الأعالي، مسربلٌ بهلالاتِ غيمة تهطلُ بهاءً فوقَ قبابِ سديمِ الرّوحِ، بحثاً عن نورانيّة قداسةِ الحرفِ، كأنَّها شاعرة مجبولة بأسرارِ الطّينِ الأوَّل، جانحة نحوَ خصوبةِ الرّوحِ المخضّلة بيراعِ الإخضرارِ، تنقشُ هواجس الحنين فوقَ نضارةِ مويجات البحر، مستلهمةً من شهوةِ الغابات، مسارات العبور إلى مذاقِ الحروفِ ودهشةِ الإنبهار، تسرجُ حفاوةَ الحرفِ من نكهةِ التّينِ المتدلّى فوقَ عناقيدَ العنب، بحثاً عن مساحاتِ بوحٍ شعري متآلف مع آفاقِ الخيال، ورغبةً في العبورِ في مرامي أحلامِها المجدولة بأريجِ أبهى الأزاهير. 
تستنهضُ مخيّلتها طاقاتٍ دفينة، تستعيدُها من الأغوارِ السَّحيقة وتفرشها فوقَ أوجاعِ الأمّهاتِ الهاربات من ضجرِ اللَّيلِ الطَّويل، تبلسمُ حروفُها الجّراحَ النّازفة من شراهةِ نيرانِ الحروبِ المندلقة من رؤى بليدة، غارقة في الإنشراخ. تمتلكُ وئاماً بهيَّاً معَ قلقِ الرُّوحِ، وتزرعُ حرفها فوقَ قلوبٍ عطشى للمطر، يتهادى حرفها مثل نوارسِ البحرِ فوقَ رشقةِ الأمواجِ، راسماً فوقَ أجنحةِ النَّوارسِ صفاءَ البحرِ وشوقَ القصيدة إلى أشجارِ البيتِ العتيق، تطفحُ عيناها ألقاً إلى كتابة نصٍّ من خصوباتِ دهشةِ الإنبهار! ..        
حرفُها مكتنزٌ بثمارٍ شهيّة، تتهاطلُ رفرفاتُه من أجنحةِ قلبٍ معرَّشٍ بنسغِ المحبّة، فتنقشعُ خلال انبعاثات شهوة الحرفِ، كلُّ الأحزانِ والمراراتِ العالقة في سراديبِ الرُّوح، وتصفو الرُّوح من الشَّوائب العالقة في هلالاتها على مدى هبوب الغبارِ على وجه الدُّنيا، تسمو روحُها الشَّفيفة عاليةً، متطهّرة من أدرانِ الحياةِ، شوقاً إلى معانقة سموِّ السَّماءِ في ليلةٍ مكلَّلةٍ بأغصانِ الزَّيتونِ على خفقةِ رفرفاتِ حمائم السَّلام، محلِّقةً فوقَ مآقي المدائن، قاصدةً ملاذ الرّوح في عرشِ الأزل كي تنعمَ في مروجِ النَّعيمِ على مدى بهجاتِ الإنبعاث، تهفو إلى عناقِ حرفٍ مصفّى كالماءِ الزُّلال! .. بهجةٌ غامرة تسربلني كلّما أتوغَّل في تجاويفِ الخيال المنساب من حبورِ بوحِها المنبلج من لجين الأفكار المنسوجة من شراعِ الأفراح المرفرفة فوقَ مآقي الحنين إلى شموخِ تيجانِ المدائن. تبدو أحياناً مكفهرّة الحرفِ من تصادمات بعض البشر وابتعادهم المخيف عن جوهر الحياة. حبرُها يناجي الحيارى، حاملاً بين ثغرِه مهاميز السُّؤال. 
ألامسُ زغبَ الحرفِ، يبدو في الكثير من وهادِهِ، كأنّه مجبول من رعشة طيرٍ يلهو معَ نسائم الصَّباح، يمنحنُي حرفُها أجنحةً وارفة بألقِ السُّموِّ، فأشعرُ أنّي أحلِّقُ عالياً وأداعبُ ضياءَ القمر، تضيءُ القصيدة معالم الطَّريق، وتخفِّفُ من سماكاتِ السَّديمِ فوقَ أحداقِ العيون. 
لا تكتبُ القصيدةَ كلمةً كلمةً، تغمرها الرُّؤى كشلَّالِ فرحٍ منبعثٍ من إشراقةِ الشّمسِ، وتسربلُها حتَّى الإمتلاء خلال توهُّجات شهقة العبور في حنايا تجلِّيات خصوبة الإبداع؟!
د***
أسماء غريب قامة أدبيّة باسقة، شاعرة مخضّلة بتوهّجاتِ حرفٍ مكوَّرٍ بألقِ الإنبهار، مشبّعة بينابيع شعريّة صافية كنسيم اللَّيل العليل، تسعى منذ أن غاصت في أسرار الحرف، أن تغدق ألقَ الإنبعاث نحو أقصى مسارات وهجِ الإشتعال، كي تطهِّرَ الرّوح من شوائب الحياة، عبر ابتهالات بوحِ القصيدة.               
كلَّما أعبر معالم حرفها، أراهُ مبلَّلاً بأعشابِ الطُّفولة، لما فيه من أصالة مترعرعة في أنساغِ حنينها إلى البيوت العتيقة، العالقة في أخاديدِ الذَّاكرة، متوجِّهةً نحو التِّلالِ البعيدة، بحثاً عن أسراب الحمام كي تنسجَ قصيدتها على أنغام هديلها الطَّافح بالوئام بين شهيقِ الكائنات.                                         
شاعرة منشرحة القلب، تسمو عالياً على إيقاعِ خيالٍ جانحٍ نحو قِبابِ الوئام، تهفو أن تزرعَ هدهدات بهجة الرّوح في لجينِ السَّديمِ المتناثرِ فوقَ مآقي الغمام. تنسج أحلامها الوارفة فوق جبينِ الصَّباح، مسترسلة في حفاوة عناقٍ متدفِّقٍ مع حبّاتِ المطر، راسمة بسمة الحرف بطراوةٍ منعشة فوقَ مسارِ تجلِّياتِ الخيال، مستلهمةً من وهجِ الشَّمسِ جموحَ شهوةِ الإنبعاث!                                                     
الشّاعرة أسماء غريب، حالة شعريّة نقديّة ثقافيّة فريدة في تمايزها في بناءِ رحابةِ شعرها، وانفراجِ مسارات نقدها، ودقّة غوصها في معالم النُّصوص الَّتي تعكف على ترجماتها، حيث تتوغَّل في فضاءاتِ الشَّاعر وتقرأ بشغفٍ عميق مسارات شاهقة من تجربته، وكأنّها إزاء بحثٍ تحليلي عميق عن أسرارِ بهاء الحرفِ، إلى أن تبني صورة عميقة عن إبداع الشّاعر الَّذي تنوي ترجمة نصوصه، ثمَّ تبدأ بترجمة قصائد الشّاعر، فيسهل عليها العبور عميقاً في الظِّلال الخفيّة للشاعر، ولهذا عندما أقرأُ نصوصها الَّتي ترجمتْها، تبدو لي وكأنّني أقرأ نصَّاً أصيلاً وليس مترجماً، فهي تمتلكُ مهارات وتقنيات نقل الوهج الشِّعري، والألق الأدبي، عبر الصُّورة المماثلة للغة المنقولة إليها بهاءات النُّصوص المترجَمة، وكلّ هذه الرُّؤى السَّديدة، ساهمت في تعميق تجلِّيات آفاقها الشِّعريّة عندما تسبغ فوق حرفها خيوطَ الإنبعاث!                                   
***
توقَّفتُ مليِّاً عند ديوان الشّاعرة أسماء غريب، "99 قصيدة عنكَ"، بعد أن تمعَّنتُ في لوحة الغلاف كمفتتح للولوج إلى فضاءات الدِّيوان، لوحة معبِّرة عن فحوى القصائد، يتسبَّحُ إسم الله في قرص الشَّمس الوهّاج وفي ضياءِ القمر وتلألؤات النّجوم في قبّةِ السّماء القمراء. يتوسَّط اللَّوحة شموخ كائن له جناحان سامقان، اخضرار الزُّهور في قبّة السّماء. يبدو واضحاً أنّها كتبت 99 قصيدة لتمجيد وتسبيح الله في الأعالي، هذه القصائد هي ترميزات قداسة الله كما جسّدتها الشَّاعرة في متون قصائدها الَّتي استلهمتها من جلالة مجد الله، فتراه ممجَّداً وساطعاً هذا الإله القدُّوس في الأرض والسَّماء، وفي كلِّ مكان، لأنّه نور الحياة، فترسم الفنّانة الشّاعرة لوحة غلافها من وحي فضاءات ديوانها المستلهم من تجلِّيات سموّ الله في فضاءات الأرض والسَّماء الرَّحبة. أسماء غريب شاعرة رهيفة عبر اللَّون، وفنّانة جامحة عبر الكلمة الممراحة. تنسج الشَّاعرة "قصيدة ذهبيّة" عبر تدفُّقات سامية في بحار قداسة الله وفضاءات الأنبياء والقدِّيسين الّذين أرسلهم للعالم لتمجيد اسمه في الأرض والسَّماء!                                                                     
إنّها فردوسٌ من الشّمُوس والأقمَار والكواكبِ                                                             
إنّهَا محيطٌ أخضر ونوارسٌ بيضٌ
بلْ قلبٌ صبٌّ متيّم / وأشجارٌ مِنَ المنّ والسّلوى
إنّها أنتَ يا إلهي
قالتِ الطّفلة بلسانٍ ألثغ
ثم غاصَتْ في محيطِي الأخضَر
أنا القصيدة الذَّهبيّة.
تجنحُ الشّاعرة نحو ذاتها الصَّافية صفاء الرّوح المنبعثة من سموِّ إله أزلي في بهاء السَّماء، كما تهفو عبر نصَّها إلى إله يصفِّي الرّوح من الجَّشاعةِ والشَّراهةِ، بحثاً عن حنوِّ دَمعةٍ منسابةٍ من مآقي السَّماء.
حِينمَا فَتَحْتُهَا وَجَدْتُ فيهَا دَمْعَتَكَ العَظِيمَة يَا إلهِي
فشَرِبْتُهَا وَجَلسْنَا مَعاً؛ أنْتَ وَأنَا نَبْكِي وَنَبْكِي
إلى أنْ سَمِعَنَا العِيدُ فطرقَ بَابنَا وقال حِطّة 
ثمّ جلس إلى مَائدَتِنا يبْكِي هُو الآخر
فوقفتُ وطَفِقْتُ أمسحُ بيدِي دَمْعَكَ ودَمْعَهُ يا إلهِي.
تنسجُ عبر نصّها ليالٍ مخصَّبة بنِعَمِ السّماء المتهاطلة على الأرض، من خلال إتّحاد اللَّاهوت بالنّاسوت لإنقاذ العالم من تبعات الخطيئة الأولى، وهجٌ شعري ينبعثُ من أعماقِ تجلِّياتِ بوحِ الرُّوح!
ثمَّ بعدَ الصَّحوِ بقيتَ فصرْتَ الجَّمعَ وصرْتُ الكثرة
وظهرتَ لي وظهرتُ لكَ وحبلتُ في الختام بكَ مِنكَ
فصرتَ ابني وصرتُ ابنتكَ وقام فيكَ عيسايَ وقامتْ فيّ مريمُكَ
وعُدنا على بدء نبكِي بدل الدّمع دماً
لا أنت تعرف لبكائنا سبباً ولا أنا أدري لِمَ!
ترى الشّاعرة أنَّ الحبّ المقدّس طريقنا إلى أسمى حبورِ الفراديس، تستلهمُ مزار العشق من وحي رحاب الحبِّ الأزلي المنبعث من روح الإله. 
أعرفُهُ جيّدا: / إنّهُ أبي الموشومُ بصُلبانِ المحبّة
تمتلكُ رؤية جانحة نحو أغصان المحبّة المبلَّلة بالسَّلام. وفي نصِّ "حديث النّواعير العشر"، تزهو الشّاعرة بابتهالات النّواعير المزدانة بماء الحياة، عبر لغة متناغمة مع بهجةِ روحٍ مرفرفة فوقَ بهاء روعةِ الغسق!
عرُوسَتي صاحبةُ التّاجِ والهوْدَج الأزرق
....  أنا اليدُ الَّتي تمْسَحُ دموعكَ ساعة الحنينِ
وتغسلُ جراحَك عنْد الغسَق
تنسجُ حرفها بليونةٍ كأنّها تناجي السَّماء عن أسرارِ بوحِ القصائد، وتستوحي من أريجِ الحياة ألقَ القصيدة، فتزهرُ الأبديّة عبر حرفها من خلال مذاق الموت، فهو بوّابة العبور إلى معراج النّعيم في روضِ السّماء! 
ألمْ أقُلْ لك يوما يا صديقي دعك قريباً من باب الموت
فهو باب الحياة وبابُ شجرة العسل الأزرق
تترجم تساؤلات عديدة، مفتوحة على شساعة خيالٍ مجنّح نحوَ مرامي الإيمان. 
سُؤالكَ ألسنةٌ من نارٍ / وسِيَاطٌ منْ لهبٍ أزرق
وجوابِي بحارٌ ومحيطاتٌ / لا تطفئُ عطشَ ظمآنٍ أبداً
تطرح الشّاعرة أزليّة الحي الدَّائم الَّذي لا يموت، وفناء الإنسان الجَّسد. وكأنّها تنادي بسموِّ ونقاء الرُّوح، للوصول إلى فراديسِ الأزل، المعدَّة للبشر الأنقياء من قبل الإله في نعيمِ السّماء. 
أنتِ يا ذاتَ العَرْش البَالي المُبْتلى
والرَّأس الغَافلَةِ عن أبدِيّتي، أنا الحيُّ القيّومُ
الدّائمُ الَّذي لا يفْنى ولا يمُوتُ.
تسعى الشّاعرة عشقياً عبر بنائها الشِّعري نحو مملكة العشق الأزلي، لأنّها ترى العشق الحقيقي في الملكوت السَّماوي وكل ما عداه عشقٌ مؤقّت وزائل لا محال!
أريدُ أن أقبّلكِ / أن أرقصَ معكِ
فوقَ حبْلِ الفرحِ والسّعادةِ
وأركضُ خلفكِ / إلى ما وراء سدرة المُنتهى
يجسُّ حرفها نبض مادّيات هذه الحياة، فتبدو النّار رغم أجيجها كتلة من رماد، وكل ما يدبُّ على الأرض، كائنات عابرة وآنيّة، فلا تصعد إلى أمجاد الأعالي إلا الرّوح الصّافية! .. تكتب حرفها من وحي رحاب المبدعين، بحثاً عن تجديد روح القصيدة.
لا تنمْ يا شمسَ تبريز اللَّيلة
فبيكاسو ما زال يبحثُ عن نقطة الجَّمال الحقيقيّ
عن تلكَ الأنثى الَّتي يتغنّى بِها الشُّعراءُ
ويقعُ في حبّها الرّسامون والنّحاتون
تلك العذراءُ الَّتي تُطهّر القلوبَ والأجسادَ
منْ عبثِ الزَّمَان وسطوةِ الأيّام
تغوصُ في نصوصٍ جذورها معرّشة في زرقة السّماء، نصُّها أغصانُ عشقٍ مبرعمة في بحارِ العناقِ. تبدو في حالةِ بحثٍ دائم عن جرار الطّين المشويّة بألقِ القصيدة، وتجلّيات الذَّات إلى أقاصي المحبّة. تتوّج حالة الإنصهار في الحبِّ والعشق إلى درجة التّماهي في هذه الحالات. وترسم الشَّاعرة شموخ سومر فوق قباب السَّلام، مجسِّدةً مرامي أولى الحضارات! 
سومر يا هُو يا أنتَ يا أنا، / يا هديلَ الحمام فوق القباب 
ترفع راية المسرّة عبر حروفها الَّتي تدفَّقت نوراً فوقَ مرامي الكائنات، فوقَ أحلامِ البشر. نصٌّ محبوك على مهجةِ العبور إلى تيجانِ المحبّة. تكتب بغزارة وتجنح رؤاها أحياناً عبر تدفُّقاتها الشِّعرية نحو عوالم سورياليّة حلميّة شفيفة، تتميّز برحابة آفاق الخيال المكتنز بصورٍ تصدحُ بالجّمال.  
حينمَا أكلتُ الشَّمسَ / أنا طائرَ الحُلم الزّبرجدي
تحوّل وَجهي إلى عَيْن من اللُّؤلؤ / وقلبِي إلى قزحيّة مِن الزّمُردِ
وجِذعي إلى بُؤبؤ من اليَاقوت الأزرَقِ
تغوص الشَّاعرة في أعماق النَّفس، لتزرع الثّقة النَّاصعة في النّفس، مستفيدةً من كلِّ لحظة في الحياة، بحثاً عن جوهر الحياة عبر رحلة حواريّة بديعة حول الحبِّ وما يعترضه في الحياة من صعوبات ومشقَّات ولكن الوصول إلى الهدف ممكن عبر المحبّة. بناءٌ شعريٌّ متين في بساطته وآفاقه وتهويماته البديعة. 
آلو، هلْ مَازلتَ مَعِي عَلى الخَطّ؟
لا تنسَ أنْ تُعَانقَ أهلكَ / وأنْ تحْمِلَ مَعكَ رفيقَ الطّريقِ:
كتابَكَ الذَّهبيّ وزهْرتكَ الحَمْراء / وامشِ إلى أنْ تصِل إلى جَبَلِ النّار
ستجدُني فِي انتظارِكَ هُناكَ / كيْ نمْشي مَعاً فوقَ أخْدودِ الجَّمْرِ
هناك تجسيد عميق في قصائدها لمساحات الوئام وأجنحة الحمام في ضياء الكون!
قصيدتي الخفيّة طائرٌ صغيرٌ جدّاً / لهُ خمسةُ عيون وعشرة أجنحة.
عند كلّ فجر حينما يعودُ إلى جسدي / يبدأ في اللّعب بالطّين والماء
كيْ يصنع لي في كلّ يوم / اثنتي عشرة حمامة
تحلِّق الشّاعرة في فضاءات الحكمة، مستلهمةً ألق القصائد من ألوانِ الحياة. تنسج نصَّها من كنهِ الميتافيزيق، كأنّها في حالة تحليق نحو نضارة الأعالي. 
عجبي كيفَ أقيمُ بينَ جوانحكَ ولا ترانِي  
وكيف أنّي بيْنَ بُطَيْنِ قلبكَ وأُذَيْنهِ ولا ترانِي
فمَتى تنزعُ عنكَ حِجابَ الزّرقة / كيْ يقع التّجلّي فترانِي؟!
تتواصل مع قوى البشر من خلال مناجاة الله وتجسيد رؤى حكيمة في غدنا الآتي. تترك الشَّاعرة تساؤلات مفتوحة على آفاق الخيال، عبر مهاميز بوح القصيدة.
إلهي، لِمَ جعلتنِي حمامةً تطيرُ وتغنّي أعذبَ الألحان
تطيرُ وتُغنّي فوقَ الأنهار والأشجار
فوق الصّحاري وفوق البحَار
وفَوقَ قمَم أحرام الجَّامعات وساحاتِ المطارات؟
تتوقّف الشَّاعرة عند حالات ارتباك المرء من تنافرات وتناقضات الكثير من مواقف الحياة، وتكتب عن الأمل والبحث عن معاني الأمل عبر تراميز القصائد. تشبِّه الحبيب، الصَّديق، بكلِّ ما هو متألِّق وفتّان، ولديها إنصهار عميق في الذَّات الإلهيّة والجّمال والسُّمو نحو الأعالي.
كلّ ما أريدُه، نظرةَ عشقٍ حارقةٍ مِنكَ
كلّما سجدتُ لكَ عند السّحَر،
تتحدَّث عن عاشق من روعةِ بساتين الخميلة. وتطرح تساؤلات مفتوحة عن منائر العلوم، ومسار الحرف في منعرجات الحياة! تستخدم الشَّاعرة ترميزات عبر نصِّها حول علاقة الرُّوح بالجَّسد وعلاقة الأرض بالسَّماء بأسلوب يتماهى مع معراج العشق الإلهي. تتألَّقُ في مناجاة البحار والرُّوح الصَّافية، عشق في رحاب الزّمن. وترى أنَّ مرامي الحياة تنبع من لبِّ الحرف وجوهر رؤانا، إنّه طريقنا إلى أقاصى التَّجلِّي.  تبحث عن الحرّية، فلا تجد إلا أصفاداً تحاصر ليلها الغارق في أوتادِ السُؤال. وتنسج طموحات مزهوّة بألقِ النَّعيمِ من خلالِ مناجاةِ ينابيع صفوة الإيمان.
تجنح الشّاعرة نحو بناءِ نصٍّ شعريٍّ واضح، تهدف إيصال الصّورة الشِّعريّة بليونةٍ فريدة، بعيداً عن أيّةِ ترميزات ضبابيّة، مركّزةً على ثقافتها العميقة وموروثها الثَّقافي المنفتح على آفاق تطلُّعاتها الَّتي تصبُّ في رحابِ الينابيع الصّافية. ونجدُ لدى الشَّاعرة روحاً ثوريّة على كلِّ ما هو متحجِّر، فترى الشَّاعرة أنَّ للحرف للنقطة للشعر قوّة وتأثير على آفاق حياتنا على مدى تاريخ الحضارات، وصولاً إلى الوقت الرّاهن! 
سأثور عليكَ كيْ أعِيدَ ترتيبَ حُرُوفِ الأبْجَدِيّة
وأعِيدَ إلى العُشّاق نُقْطَةَ رَبِيعِهِمُ المَفْقُود
ونُقْطَةَ شَمْسِهِم الدّامية وَسَط القُلوب
وأضَعَ نُقطَة نِظَامٍ جَديدَة وَسَط مُجَلّدِ التَّارِيخِ
المُطَرّز بالتّرّهَاتِ وَالأكَاذِيبِ.
وترى أنَّ تطهير كلّ شوائب الحياة، يتمُّ عبر نار المحبّة والصَّفاء والحكمة والنّزوع نحو سموِّ السَّماء! فتناجي المشاعر الدَّفينة، المعشَّشة في أعماق القلوب، ثمَّ تغوص عميقاً في مرامي العلوم عبر تساؤلات لأسرار السّماء! تتماهى مع روعة الحياة كأنّها جزء من روحانيّة الشّاعرة ومبرعمة في عوالمها الخاصّة. تصف الشَّاعرة صبيّة متوغِّلة في صفاء اللَّيل، كأنّها زهرة مبرعمة في جفون القصيدة. هناك حالة انصهار مع الحبيب، كما تتواصل مع أبجديات الجُّذور، فترى رحاب الأجداد من منظورٍ شعريٍّ أخّاذ. 
تفتح آفاق جديدة في لغتها الشِّعريّة، لما تقدّمه من التماعات شعريّة تفرشها على فرادة حضارات الشَّرق.
حيث نتلمّس في قصيدة "رأيتُ صليبي"، كيف تجسّد الحق والعدالة المشعّة إلى نورٍ عبر شعاعَين! 
رأيتُ بالأمسِ صليبي
كان أمامي لا فوقَ ظهري
كان شمساً انشطرت إلى شعاعَين 
ثمَّ تكتب عن البئر والبحر، كأنّها معادلتان متكاملتان، لتصفية شوائب الحياة. وفي قصيدة "الآن تذكَّرتُ"، تضع الشَّاعرة يدها على دروب النِّفاق المتفاقمة عند بعضهم، يبحثون عن الضّلال، مع أنّها تريدهم أن يسيروا في طريق الصَّواب ويكونوا أباطرة زمانهم وفي قمّة القمم، لهذا نراها تسلّط قلمها على المغرورين والمتعالين والتَّائهين خلف مجدٍ من سراب، وتنظر الشَّاعرة  نظرة فسيحة في تحليل مبدعي الآداب الرَّفيعة، أمثال باخ وكانت وبودلير حيث تقول: 
سألتُ الأوّلَ عن العَلاقةِ بين المُوسِيقى والرّياضِيات
والثاّني عن العَلاقة بين الله والعقلِ المَحض والسّعادة
والثَّالثَ عن علاقة كُلّ هذا بالشّعر
فقَام "شارل" وسَقانِي مِن كأسِه حرْفاً 
لا شيءَ فيه سِوى القلب
وقام "إيمانويل" وأعْطانِي صحْناً 
لا شيءَ فيه سوى نسغ العقلِ
لكن حينما قَام "سيبستيان" عَزفَ لي مَقْطوعة 
رقصَ لهَا قلْبي وعقْلي
وفي قصيدة "كافكَا تحتَ السّرير"، لا تتوانى الشَّاعرة من التّشكُّك ونقد الآخر حتّى ولو كان كافكا، وتغوص في لبِّ الفلسفة ومتاهاتها وأعماقها وبديلها كما في قصيدة "صديقي فرويد".  
أسماء غريب شاعرة حروفيّة رصينة، ففي قصيدة "مكتبةُ النّقْطَةِ الذّهبيّة"، تناجي الله على نعمة السّماء المتهاطلة علينا. وفي قصيدة "مُحَاكَمَة النُقْطَةِ"، نرى هجوماً على النّقطة، على الأشرار والطُّغاة والقساة. وفي قصيدة "السَّيف الذَهبي"، نجدُها تتواصلُ مع عرين المدائن المعتّقة بألق العطاء، حيث تقول: 
إلهي، / مُنذ ذلك الحين ورَسُولتك الزّينبيّةُ النُّقطة والحرفِ 
تزورني تارةً من دمشق / وتارة من بغداد وتارات أخرى من البتراء
كي تذيبَ كالحدّاد بالنّار تراب المَوْتِ الجَّسديّ 
ثمَّ تجنحُ في قصيدة "غُصنٌ من اليُشب الأحمر"، نحوَ صورٍ عشقيّة متماهية مع المحبوب برهافةٍ شاعريّة. وفي "رسولُ العشق"، تنسابُ تدفُّقات عشقيّة بإيقاع رومانسي شفيف، .. وفي "ساعي البريد"، تنسج الشَّاعرة تواصلاً رهيفاً بين الجَّماد والكائنات والأجرام السَّماويّة كالنّيازك وتلألؤاتِ النُّجوم. 
ولا تتوانى الشَّاعرة أن تنتقد واقع الشَّرق المرير عبر نصوصها، وتضع يدها على الجِّراح المستولدة من شراهات الدّمار المتفاقم على شعوبٍ بريئة. وفي قصيدة "زَمْزَمْ"، نقرأ نصَّاً مستوحى من صفاء الرُّوح، وفي "صباحُ الخيرِ سَاكورا"، تبثُّ رسالة عتاب شعريّة، ونقرأ نصوصاً مفعمة بفضاءاتِ السُّؤال! ولا يفوتها الإحتفاء بشعراء لهم قاماتهم الإبداعيّة، وإستلهام العديد من القصائد من عوالم الأنبياء وسموِّ عشقهم وصفائهم الرّوحي، فتناجي بابتهالٍ عميق سموَّ الله والأنبياء والرُّسل والقدِّيسين والقدِّيسات. 
الشَّاعرة أسماء غريب تجسِّدُ عبر فضاءاتها الشِّعريّة وعبر هذا الدِّيوان، تجربةً شفيفة كنسمةِ الصَّباح، تحبُكُ شِعرها عبر تأمُّلات وتجلِّيات روحيّة مفعمة بالوئام ومتشرِّبة بكنوزِ المعرفة الإنسانيّة الخلَّاقة! 

صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق